فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}: إلَّا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ فَلَهُمْ مِنْهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: «هَؤُلَاءِ بَنُو مُدْلِجٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ مَا حَرَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا عَقَدَ الْإِمَامُ عَهْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا مَحَالَةَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ بِالرَّحِمِ أَوْ الْحِلْفِ أَوْ الْوَلَاءِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِهِمْ وَمِنْ أَهْلِ نُصْرَتِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَهْدِ مَا لَمْ يَشْرِطْ، وَمَنْ شَرَطَ مِنْ أَهْلِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى دُخُولَهُ فِي عَهْدِ الْمُعَاهَدِينَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِمْ إذَا عَقَدَ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو كِنَانَةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: «إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ» فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَادَعَتَهُمْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، فَأُمِرُوا أَنْ لَا يَقْبَلُوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَنَسَخَ بِهِ الْهُدْنَةَ وَالصُّلْحَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَرَنَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ.
وَأَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَقَدْ كَانُوا أَسْلَمُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَرَجَعَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَمَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي نَسْخِ مُعَاهَدَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ وَالدُّخُولِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا فَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا بَعْدَمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَ أَهْلَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ.
إلَّا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ أَوْ خَوْفٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ ذَرَارِيِّهِمْ، جَازَ لَهُمْ مُهَادَنَةُ الْعَدُوِّ وَمُصَالَحَتِهِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَظْرَ الْمُعَاهَدَةِ وَالصُّلْحِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ قُوَّتِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَاسْتِعْلَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ الْهُدْنَةُ جَائِزَةً مُبَاحَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إنَّمَا حُظِرَتْ لِحُدُوثِ هَذَا السَّبَبِ، فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِنْ خَوْفِهِمْ الْعَدُوَّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ مِنْ جَوَازِ الْهُدْنَةِ؛ وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِذَوِي الْأَرْحَامِ، فَمَتَى لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا عَادَ حُكْمُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: «ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ» وَالْحَصْرُ الضِّيقُ، وَمِنْهُ الْحَصْرُ فِي الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ لَقِرَاءَتِهِ، وَمِنْهُ الْمَحْصُورُ فِي حَبْسٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ: «هُوَ الَّذِي حَصِرَ صَدْرُهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ كَانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ مُحَالِفِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ وَأَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْكَفِّ عَنْ هَؤُلَاءِ إذَا اعْتَزَلُوهُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُسْلِمِينَ كَرِهُوا قِتَالَ قَوْمِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الرَّحِمِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ قَطُّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَلَا كَانُوا قَطُّ مَأْمُورِينَ بِقِتَالِ أَمْثَالِهِمْ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} يَعْنِي إنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ ظَالِمِينَ لَهُمْ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُشْرِكِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ إذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ قِتَالَ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ أَيْضًا.
وَالتَّسْلِيطُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ لِيُقَاتِلُوكُمْ، وَالثَّانِي إبَاحَةُ الْقِتَالِ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}: الْمَعْنَى إلَّا مَنْ انْضَافَ مِنْهُمْ إلَى طَائِفَةٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْعُهُودُ فَانْتَسَخَ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِإِيضَاحِهِ وَبَسْطِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاءُوا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ نُقَاتِلَ مَعَكُمْ وَلَا نُقَاتِلُ عَلَيْكُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعَهْدِ، وَقَالُوا: لَا نُسْلِمُ وَلَا نُقَاتِلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَأَلُّفًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ بَسَطْنَاهَا بَسْطًا عَظِيمًا فِي «كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ» بِأَخْبَارِهَا ومُتَعلَّقاتِها فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ وَرَقَةٍ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ}
والآية تبدأ باستدراك حتى لا تفتح مجالًا لإغضاب من كان للإسلام تعاهد معهم وتعاقد، فالذين يصلون ويلجأون إلى قوم بينهم وبين المسلمين تحالف أو ميثاق لا ينطبق عليهم ما جاء في الآية السابقة وهو الأخذ والقتل.
مثال ذلك ما حدث من عهد بين المسلمين وهلال بن عويمر الأسلمي على ألاّ يعينوه ولا يعينوا عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله الجوار مثل الذي لهلال. والاستثناء يشمل أيضًا من جاءوا إلى المسلمين، فمن ذهب من المنافقين إلى من عاهده المسلمون فهو يحصل على الأمان، وكذلك يُؤَمِّنُ الرسول من جاءه من المنافقين وقال من الأسباب ما يجعله يطلب حماية الرسول والإسلام: فعلى الرغم من نفاقة يؤمنه الإسلام.
{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} كأن يقول الواحد منهم: أنا لا أقدر أن أقاتلكم، ولا أقدر أن أقاتل قومي فاغفر لي هذا واقبلني معكم. هؤلاء يقبلهم الرسول لأنهم أقروا بما هم فيه من ضيق، فهم لا يستطيعون التصرف لا أمام المسلمين فيعلنون الإيمان، ولا أمام الكافرين فيعملون في معسكر الكفر. ولا يستطيعون أن يتخذوا موقفًا حاسمًا حازمًا بين المسلمين والكافرين، فهم يقرِّون بضعفهم، ويعترفون به.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ}. فما الذي يجعلهم يلوذون إلى قوم يتحالفون مع المسلمين بميثاق حتى يحتموا فيهم؟ أو يقرون أن صدورهم ضيقة وأنهم غير قادرين على التصرف، ويعلنون: لا نستطيع أن نقاتلكم ولا أن نقاتل قومنا. ويوضح الحق: أنا فعلت هذا وألقيت الرعب في نفوسهم، ولو شئت لسلطتهم وجرأتهم عليكم، وقاتلوكم، إذن فسبحانه ينصرنا بالرعب ويمنع قتالهم لنا.
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}.
إن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقو السلم واعترفوا بأنهم لا يملكون طاقة اختيار بين قتال المسلمين أو قتال قومهم، فليس لكم أيها المسلمون حجة أن تعتدوا عليهم؛ فالاعتداء عليهم في مثل هذه الحالة ينهَى الله عنه وعين الحق لا تقتصر على ما نعرف، ولكنها تتعدى إلى أدق التفاصيل؛ فهي عين لا ترى ما عرفناه فقط ولكنها تكشف لنا الحجب التي لا نعرفها، فيقول سبحانه: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ}: في هذه الاستثناء قولان:
أظهرهما: أنه استثناء مُتَّصِلٌ، والمستثنى منه قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} في الأخذ والقتل لا في المُوالاة؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال.
والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ.
وقال أبُو عبيد: «هو اتِّصَالُ النَّسَب»، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتًا بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابة، وبين المُشْرِكين، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم.
وقال ابن عبَّاس: يريد: ويلْجَئُون إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: عهد، وهم الأسْلَميُّون، وذلك أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ.
وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ: أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ: بني بَكْرٍ بن زَيْد بن مَنَاة، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنَة، وقال مُقَاتِل: هم خُزَاعَة.
والقَوْل الثاني: أنه منقطعٌ- وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ، واختيار الرَّاغب-.
قوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة لـ {قوم}، ويجوز أن يكُونَ {بينكم} وحْدَه صفةً لـ {قوم}، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، و{ميثاق} على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ، وهذا الوَجْهُ أقربُ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة.
قوله: {أو جاءوكم} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على الصِّلَة؛ كأنه قيل: أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم، فيكون التقدير: «إلا الذين يصلون بالمعاهدين، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم» فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس: أحدهما: واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه.
والثاني: أنه عطْفٌ على صِفَةِ {قوم} وهي قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم، وتَرْكِ الإيقاع بهم، فإن قُلْت: كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ {قوم}، ويكون قوله: {فإن اعتزلوكم} تقريرًا لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم، وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت: هو جَائِزٌ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أٍلوب الكلام. انتهى.
وإنما كان أظهر لوجهين:
أحدهما: من جِهَة الصِّنَاعة، والثاني: من جهة المَعْنَى.
أمَّا الأوَّلُ: فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصِّلَة، كان مُحَدَّثًا عنه بما عَطَفْتَه، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة، فإنه يكونُ تَقْيِيدًا في {قوم} الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّة وبين أن تكون تقييدية، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها.